حزب الله، حزب لِلّـه ؟

0
252

carte_liban_3

كتبته بالفرنسيّة: إلهام صوفي، طالبة بالماجستير II في اختصاص العلوم السياسيّة وعضو بالرّابطة الطلاّبية للتفكير والعمل السياسيّ (GERAP).

ترجمه إلى العربية:  نور حايك

بعد نهاية الحرب الأهليّة اللبنانيّة (1975-1990)، أصبح حزب الله، وهو في نشأتِهِ حركة مسلّحة عقِبت الاجتياحَ الإسرائيليّ عام 1982، بفضل مطالباته وأعماله ومقاومته فاعلًا مهمّا لا غنى عنه في المشهدِ اللّبناني المحلّي كما على الصعيد الإقليمي دون أن نغفل عن مكانته ممثلاً للطائفةِ الشّيعيّة في بلادِ الأرْز.

في خضمّ الأحداثِ الجارية في لبنان (مع إسرائيل) لا تجد وسائل الإعلامِ الغربيّة حرجًا في وصفها المبسّط المخلّ، حزبَ الله بأنّه حركةٌ إرهابيّة إسلاميّة، مما يُسهِم في تشويه صورته أمام الرأي العام الناطق بغير العربيّة والذي كثيرا مّا يكون مطّلعا إمّا على قليلٍ وإمّا على خلافٍ.
ورغم ذلك، يحظى حزب الله بشعبيّةٍ واسعة. ومن الدلائل على ذلك، حرب الثلاثة وثلاثين يومًا مع إسرائيل في صيف 2006 حين حظيَ مقاتلو حزب الله بتأييدٍ واسعٍ من قِبل الشّعب اللّبناني. إنّ حزب الله « واقعٌ اجتماعي »،وتلك مِيزَة فريدة من نوعها بَرزت خاصةً بعد ارتقاء حسن نصرالله إلى منصب الأمين العام لحزب الله في 16 شباط/فيفري 1992، و مازال  كذلك إلى اليوم.
وعليْه، يغدو مهمّا أن نتساءل عن الطريقة التي بها أدرج حزب الله العنصر الاجتماعي ضمْن استراتيجيته السّياسيّة. سيركّزُ التّحليلُ في مرحلة أولى على استراتيجيّة الحَشْدِ التي يعتمدُها حزب الله. وفي مرحلة ثانية سنستعرضُ العنصر الاجتماعي للحركةِ من حيث هو وسيلة لتطبيق الاستراتيجية السّياسيّة.

حزب الله أو حزب المحرومين: استراتيجيّة الحشْد

إن لمْ تكن شعبيّة حزب الله لدى الأهالي إلاّ في ازدياد، فإنّ ذلك يعود في جانب منه إلى ظهور « الجهاد الاجتماعي ». إذ أنّ واحدةً من واجهات هذه الجماعةِ الإسلاميّة اليومَ تتمثّل في دورها كمنظّمةٍ غيرِ حكوميّة مقارِبة هدفها تطوير الهياكل الاجتماعيّة لفائدة المعوِزين، خاصّة. أما أكبر المستفيدين من هذا المخطّط فهم أولئك الذين عانوا من عواقبِ مختلفِ النّزاعات والأزمات التي عصفت بلبنان خاصةً في جنوبه حيث الشيعة أغلبيّة، وفي الضّاحية الجنوبيّة لبيروت وفي منطقة البقاع، وهي مناطق جغرافية الدولةُ فيها مقصّرة تقصيرا شديدا. ويسمّي سكّان هذه المناطق، ومعظمهم من الطائفةِ الشيعيّة والفقراء، أنفسَهم المحرومين، ويجدون في حزب الله، الحزبَ الذي يدافع عنهم ويمثّلُهم.
منذ البداية، أقام حزب الله شبكةً معقدةً من المنظمات من أجل سدّ النّقص في مختلف الخدمات حيث لا أثر للدّولة في كثيرٍ من الأحيان. وتنقسم هذه المنظمات إلى أربعةِ فروعٍ رئيسيّةٍ هي: التّعمير والتنمية والصّحة العموميّة وقطاع المساعدة الاجتماعيّة الذي يوفّر دعمًا مادّيًا وقروضًا صغيرة لأسَر عناصر حزب الله الذين أُسروا أو الذين قُتلوا في المعارك، كما يضمَنُ التّعليمَ لأبنائِهم. وأخيرًا، ثمّة »قطاعٌ » مخصّصٌ للتّعليم والتربية لا شكّ أنّه يرمي إلى مساعدةِ الشبابِ من خلال المساهمةِ في رفع غطاء الأمّيّة عنهم ولكن كذلك في توعيتهم منذ نعومة أظافرهم بقضايا « حزب الله « ، على وجه أخصّ.
فمن خلال هذه الهياكل، إنّما يستخدم حزب الله استراتيجيةَ الحشد. ولئن كانت المؤسسات الخيريّة تَكِـرّةً يستخدمها حزب الله فإنّها ليست وسيلةَ  الحشد الوحيدة. إذ يلجأ حزب الله أيضًا إلى استخدام وسائلَ بثٍّ مثل قناته التلفزيونيّة « المنار »، ومحطته الإذاعيّة « النّور »، أو إلى دعم الصّحف اليوميّة المساندة له. الهدف المَنشود هو تعديل فارق التكنولوجيا بينه وبين »تساحال » (جيش الدفاع الإسرائيلي) بقوى معنويّةٍ كبيرة.
يصف حزب الله نفسه بحركة مقاومة في مجابهة الاضطهاد الإسرائيلي، ويقارن نفسه بالمقاومة الفرنسيّة خلال الحرب العالمية الثانية عندما وُصمَت بأنّها حركة إرهابية.
يعمد عناصر حزب الله، وهم مدركون لمدى استراتيجيتهم الحاشدة، إلى المراهنة عليها بشكل كبيرٍ في مواجهة عدوّهم إسرائيل. وهم يمجّدون ردع الضّعيف للقويّ، ردعًـا يسبّب للعدوّ أضرارا تعادلُ على الأقل تلك التي يتحمّلها هو، وذلك دون أن تكون قوّة ضربه معادلةً بالضرورة لقوّة خصـمـه. من المؤكّد أنّ لـ »تساحال » على مختلف المستويات قدرات على أذيّة الحركة، عـبـر تصفية قادتها مثلًا، بيد أنّ قدرته على الرّدّ متهافتة لأنّ حزب الله بما له من قوة على الحَشد ضامن لنفسه دعمَ الناس جميعًا وليس الشّيعَة فقط، كما يؤكد ذلك ميشال سماحة، العضو السابق للمكتب السياسي لحزب الكتائب المسيحيّة، قائلًا، « يجب النظر إلى حزب الله على أنّه من لبنان واعتباره إذًا حركة مقاومةٍ ضدّ إسرائيل ». في الواقع، يبدو، بعد احتساب المكاسب المترقّبة والمخاطر المترتّبة، من غير الوارد أن يكرّ « تساحال » على جزءٍ كاملٍ من الشّعبِ اللبناني، إلا إذا كان يخطّط لسيناريو مروّع من التّطهير العرقي.
يُعدّ الشّهيد عند حزب الله رمز المقاومة. وأمّا لدى الرأي العام الغربيّ، وما بالُك بالإسرائيليّ، فالشهداء ليسوا إلّا إرهابيّين. وأمّا في نظر اللّبنانيّين، فالشهيد الذي تتملّكه أقصى درجات الإرادة الروحيّة التي يجدها في فهمه للإسلام، يضحّي بنفسه فداءً للمجتمع بأسره. ومن خلال المبادئ التي يقرّظـهـا، أو تلك المنبثقة عن شَخصِهِ بعد استشهاده ألا وهيَ العزّةُ والشرفُ والنّصر، يَرتفعُ الشهيدُ إلى مرتبة الأبطال كما يظهر ذلك كثيرا في الأفلامِ القصيرةِ وفي مراسم الدّفن أو على الملصقات.
الشهيد الذي يضحّي بنفسِهِ لا يزدادُ بإشعاع فَعالِه إلاّ جلالًا عبْر الحشْد الذي يتنامى على امتداد الكفاح. ومن ثمّ، يساهم تمثيلُ الشّهيد والرمزيّة التي تحيط به صُلْبَ الحراك المحشود، في زيادة أسْر القلوب، فيزيدَ بذلك في صفوف المقاومة. وبهذا الافتتان الجديد وفي خضمّ زخم روحيّ قد بلغ ذروته، يقدم بعض الأنصار على القيام بهذه الخطوة والتّضحية بأنفسهم باسم المقاومة. تلك هي العلاقة الفريدة بين الشّهيد والحشْد والمقاومة.

العنصرالاجتماعي للحركة، وسيلة لتطبيق الاستراتيجية السياسيّة

برهنت حرب الثلاثة وثلاثين يومًا في صيف عام 2006، على اعتماد العنصر الاجتماعي وسيلةً لإضفاء شرعيّة على الاستراتيجية السياسيّة لحزب الله. ومن الجدير أنْ نذكر دون العودة على تفاصيل هذه الحرب، أنّ حزب الله لم يكن يتوقّع ردًّا بتلك القسوة حصيلته 1,200 قتيل لبنانيّ و4,000 جريح وتدمير بيروت وجنوب لبنان. لقد كان ردُّ العدوانِ الاسرائيليُّ عادِيًا ولكنّ الهدف منه كان إحداثَ تأثيرٍ نفسي في السّكان من خلال تدمير البِنى التحتية. غير أنّ التأثير المنشود فشل تمامًا إذ أنّ السكان، رغم أنّ أغلب الضربات قد استهدفتهم، لم يقلبوا لحزب الله ظهر المجنّ، بل كانوا له ظهيرا.
ونتيجة لذلك، إثر القرار 1701 الصّادر عن مجلس الأمن في 11 آب/أوت 2006 الذي أنهى الحرب وبعد ثلاثة أيام منه، خرجَ حزب الله منتصرًا لأنه أجبر « تساحال » على التراجع ووضَعَ أسطورة الجيش الذي لا يقهر موضِع التّساؤل. منذ وصوله إلى منصب الأمين العام للحركة في 16 شباط/فيفري 1992، سعى قائد حزب الله، حسن نصر الله، إلى تطوير هذه الميليشيا المسلّحة لتصبح حزبًا سياسيًا شرعـيّا ومعترفا به ويحظى خاصّةً بتأييد شعبيّ لا يقتصر على الشّيعة. وإن كان « التضليل » الإعلاميّ الغربيّ يصوّر نفاذ حزب الله إلى دائرة صنع القرار في لبنان على أنّه نتيجة لتلاعب سياسي، فإنّ الواقع مخالف لذلك تمامًا. فحزب الله يستمدّ شرعيّته لدى جزء متزايد من السكان من « الجهاد الاجتماعي ». فلقد استطاع حزب الله من خلال هذه الهياكل الاجتماعية المختلفة تشريع مطالبته بإشراكه في عمليّة اتّخاذ القرار في لبنان. وبذلك، يتيح العنصر الاجتماعي للحركة تطبيق استراتيجيتها السياسيّة التي تقوم أساسا على تمثيل السّكان الشّيعة، والمتعاطفين معها من الطوائف الأخرى الذين يجدون في حزب الله الحلّ لمعالجة جميع أوجُه القصور في الدولة التي تجد صعوبة بالغة في تنفيذ-على سبيل المثال- مشاريع حضريّة جديدة في الأحياء أو المناطق التي أتت عليها حرب الثلاثة وثلاثين يومًا. وهكذا، من خلال توفير الخدمات في المجالات التي تمسّ أوّلا الفقراء الذين أدقعتهم الحرب، نال حزب الله صفة « دولة داخل الدّولة »، بل إنّه تفوّق على الدولة في إعادة بناء البنى التحتية والمناطق التي تعرّضت للقصف خلال حرب صيف 2006، من خلال إطلاق مشروع « وعد ». كما ساهم الحزب بُعيد الحرب التي استمرت ثلاثة وثلاثين يوما من خلال مؤسّسته ”جهاد البناء“(التي تم إنشاؤها في عام 1985) في توزيع « ما بين 10,000 و12,000 دولار لضحايا سكّان جنوب لبنان والضّاحية ، (1) من أجل تغطية تكاليف السّكن لفترة تناهز سنة واحدة ». العمل الاجتماعي لحزب الله في هذا المجال أكسبه اسمَ « المخطِّط العمرانيّ ».
بُعيد حرب الثلاثة وثلاثين يومًا و »النّصر الإلهي »، بلغ التأييد الشعبي لحزب الله أوْجَهُ. وبعد الإصغاء إلى الرأي العامّ، مع حنوّ خاصّ على « المستضعفين » والعمل على تعزيز التّضامُن الاجتماعي وعلى إنشاء الخدمات الاجتماعية والخيريّة، وجد الحزب نفسه مدفوعا من الجماهير إلى الانخراطِ في المجال السياسيّ. وبهذه الطريقة وبفضل ثقةِ فئة لا يستهان بها من الشعب اللّبناني ودعمِها، طالب حزب الله بمكان في السّاحة السياسيّة في لبنان حتّى ناله شيئا فشيئا. من جهة أخرى، يبدو من الصعب اليوم على القادة اللبنانيّين عدم النظر إلى حزب الله بعين الاعتبار لكونه لاعبًا أساسيًا لا غنًى عنه على السّاحة الوطنيّة كما يشهد على ذلك تحالفه مع زعيم التيار الوطني الحرّ، العماد ميشال عوْن المسيحيّ.

حزب الله: عندما تعلو القيم الاجتماعية على المصالح

كان بيد حزب الله وهو في عنفوانه مزهوّا بِهالة »النصر الإلهي » بعد الحرب التي استمرت ثلاثة وثلاثين يومًا، الحيلة للانفصال عن لبنان والمطالبة بسيادة على جنوب لبنان، معقل الحركة، ولكن لمَ لمْ يفعلْ ؟ كذلك في الرّابع عشر من شباط/فيفري 2005، عند مقتل رئيس الوزراء اللبناني السابق، السّنّي، رفيق الحريري، الذي أحدث مقتله قلاقل في السّاحة السياسيّة الوطنيّة (والإقليميّة)، ألم يكن حزب الله قادرًا على المطالبة بالانفصال؟ وإن كان لدى حزب الله فعلًا الوسائل اللازمة، فهو لن يخطوَ هذه الخطوة لسبب رئيسيّ هو تعهّده للجماهير التي تؤيّده بالاندماج في اللعبة السياسيّة والمشاركة فيها بطريقة مشروعةٍ.
أضِفْ إلى ذلك، أنّه من المهمّ الإشادة بأنّ أعضاء حزب الله هم من القوميين المتحمّسين وهم ضدّ كلّ أشكال تفكيك لبنان. الدّليل على ذلك هو تخلّيه عن فكرة إقامة جمهوريّة إسلاميّة في دولة تَعُدّ رسميًّا ثمانَ عشرة طائفةً. من ناحيةٍ أخرى، لا يسعى حزب الله إلى احتكار السلطةِ المركزيّة، مَا يمكنّه من زيادة شرعيّته السياسيّة على المستوى الوطني والعمل كحزب سياسيّ وليس كميليشْيا طموحها الوحيد الوصولُ إلى السلطة.
بطريقة أو بأخرى، ومن خلال الضوء الذي يسلّطه على القيم الاجتماعيّة التي يمكن تلخيصها في « الدفاع عن المضطهدين »، ينفي حزب الله وصْمة الإرهاب المَنوطة به. كما أنّ للقيم التي يُشيدُ بها، وخصوصًا تلك التي ينشرها عبر الجانب الاجتماعي مثل التّضامن، أثرا في السّلوك الفردي والجماعيّ. هذه القيم التي يروّج لها عبر مختلف هياكله الاجتماعية أو غيرها من الهياكل التي تبقى نسبتها إليه غامضة « تخدم القيادات بأن تكون لهم مدخلا لإضفاء سرديّة على قراراتهم السياسيّة « (2). القيم الرّاسخة في إيديولوجيا فريدة ترتكز على قناعات، في حين أن المصلحة الوطنية تنبني على البراغماتية، أيْ على الواقع الاستراتيجيّ. وهكذا إذًا تمّ تأسيس تمايز بيْن القيم الاجتماعية والمصلحة.
لدعم ما سبق، بوسعنا اتخاذ منظّمة الأخوات المتطوعات شاهدا ودليلًا. فهذه المؤسسة تهدف إلى نشر فكر حزب الله وبرامجه السياسيّة من خلال العمل الاجتماعي. فعبْر تجنيد هؤلاء الأخوات في أحياء بعيْنها استطاع حزب الله وقد اقترب من سكّانها « تحديد احتياجات الناس بدقةٍ والبقاء على علاقة يوميّة بهم ». فمن خلال هذا الحوار، تستخدم الأخوات الإرشاد والمساعدة الاجتماعية ليَنشُرْنَ معلومات عن أنشطة حزب الله. وهكذا يصبح الثقل الشعبي، عصَبُ استراتيجية الحشد، القلبَ النّابض للاستراتيجية السياسيّة القائمة على المطالبة بمكانٍ في اللعبة السياسيّة الوطنيّة.
حتّى الآن، ليْس لحزب الله نيّة لاستخدام التمرّد للوصول إلى السلطة وإعلان « دولة حزب الله ». و إن طرح السؤال التّالي: كيف يمكن لمقاومة مسلّحة أن تنخرط بمصداقيّة في الحياة السّياسيّة الوطنية؟ فذا ما يسمّى « لغز حزب الله ». من عناصر التفكير في ذلك التساؤل المظهرُ الاجتماعي واستراتيجية الحشد الناجمة عنه، وسيلةً من بين وسائل أخرى مساهمة في الاستراتيجية السياسية لحزب الله، والتي من جهة أخرى، يمكن أن تبرر جزئيًا السؤال التالي : كيف لحزبٍ ذي طابع دينيّ واضح أن يجمع بين قطاعات واسعة ومتنوّعة إلى هذه الدّرجة؟
هل تغيّر حزب الله منذ نشأته؟ وهل غيّر استراتيجيته بنيّةِ نشر برنامجه؟ لا شكّ في أنّه قد انتقلَ من ميليشيا مسلحة إلى حزب سياسي ذي جناح مسلّح، وبات أكثر عملًا في الجانب الاجتماعي من أجل حشد أكبر عدد ممكن من النّاس بغية حصد دعمهم له في « حربه السياسية ». علاوة على ذلك، فإن النّاس يتغيرون، وتتغيّر كذلك أفكارهم ووسائلهم …

(1) بمعنى أولئك الذين ضحّوْا بأنفسهم في سبيل المقاومة

(2) Jean-Loup SAMAAN,Les métamorphoses du Hezbollah, Paris, Karthala, 2007, p.38